لم يرَ اليهود بأنفسهم، تقليديًا، مجموعة دينية فقط (مثل الإسلام أو المسيحية) بل مجموعة دينية وشعب في وقت واحد، أي مجموعة عرقية ذات إيمان ديني، وهو تعريف يعطي للعرق وللتاريخ أهمية مشابهة للأفكار الدينية التي حددت الثقافة اليهودية لآلاف السنوات. هذه ظاهرة غريبة وغير منتشرة في العالم، ويصعب لذلك فهمها على غير اليهود – وحتى على الكثير من اليهود أنفسهم. ولكن من المهم للغاية فهم العلاقة غير القابلة للفصل بين الإثني والديني.
طالما رأى اليعةد بأنفسهم شعبا ودينا. وفقًا للممارسات التقليدية، إذا قرر شخص ما أن يصبح يهوديًا، فهو يتلقى أصلًا وتاريخًا جديدين، ويرى بنفسه نسلا لإبراهيم وسارة، اللذين يُنظر إليهما تقليديًا على أنها الأب والأم للشعب اليهودي. بكلمات أخرى، إذا أصبحت يهوديًا، لا تنضم للدين اليهودي فحسب، بل للشعب اليهودي وتاريخه.
لكن ليس الأمر بهذه البساطة. بدأ اليهود منذ آلاف السنين الانقسام إلى مجموعات فرعية مختلفة جغرافيًا، في الشرق الأوسط والشرق الأوسط القديم (خاصة في المراكز المهمة مثل العراق اليوم ومصر). انتقل العديد من اليهود شرقًا بعدها وأصبحوا يتواجدون في كل بلد في العالم تقريبًا، في مجوعات كبيرة وأخرى صغيرة. يتواجد اليهود اليوم في عشرات البلدان المختلفة في جميع أنحاء العالم. على الرغم من أن العديد من اليهود تركوا اليهودية ولم يروا بأنفسهم يهودا، عشرات من المجموعات اليهودية المختلفة حافظت على هويتها اليهودية وعلى انتماءها للشعب اليهودي لآلاف السنين.
ولكن، حتى وقت قريب إلى حد ما منذ دخولهم إلى العالم الحديث، رأى اليهود الذين عرّفوا أنفسهم كيهود أنهم جزء من شعب يهودي موحد وكبير. كانت الحياة تتطور بشكل مختلف جدًا لليهود في أماكن مختلفة: أنماط حياة، وعادات وتقاليد ولغات وثقافات مختلفة، بالإضافة إلى قيم وممارسات كانت آخذة بالتطور في أجزاء مختلفة من العالم اليهودي. رأى الجميع بأنفسهم جزءا من العالم اليهودي، كقادمين من نفس الجذور ومن نفس التاريخ التوراتي، ولكن في الواقع، ومع مرور الوقت، بدأ هؤلاء يبتعدون ويختلفون عن بعضهم البعض، حيث بدأ البعض (في أوروبا والغرب) بالاندماج في ما يُسمى الآن العالم الحديث، بينما عاش آخرون في أجزاء من العالم لم تكن الحداثة موجودة فيها.
طالما عاشت كل مجموعة من اليهود بمعزل عن مجموعات أخرى من اليهود، لم تكن هذه الاختلافات ذات أهمية، ولكن مع ظهور الصهيونية وايديولوجيتها لجمع اليهود من جميع أنحاء العالم، ومع قدوم اليهود من عشرات البلدان إلى ما اعتبروه “وطنهم التاريخي”، بدأت الاختلافات بالظهور وبدت كتوترات قوية للغاية بين مختلف المجموعات، وقوبلت الأيديولوجية القائلة أن جميع اليهود هم جزء من الشعب اليهودي بتحديات كثيرة الآن.
نظر الكثير من اليهود في فلسطين / إسرائيل إلى اليهود القادمين من أماكن أخرى ولم يروا فيها أنفسهم، وبدأت فكرة “الشعب اليهودي الواحد” تهتز تحت وطأة التوترات والاختلافات بين المجموعات الفرعية المختلفة. رأى اليهود قبل مجيئهم إلى إسرائيل، بأنفسهم يهودا يعيشون كأقلية بين مختلف شعوب الأرض. أما في إسرائيل، فبدأوا يعرّفون أنفسهم بحسب البلدان التي جاءوا منها: بدأ ينظَر إلى اليهود الذين تتبعوا أنفسهم إلى أوروبا، وخاصة إلى مراكز الحياة اليهودية في أوروبا الشرقية، كيهود أشكنازيم (على اسم المنطقة في الأراضي الألمانية، التي كان اليهود يسموها في العصور الوسطى “أشكناز”)، بينما عرف اليهود الذين تتبعوا أنفسهم إلى إسبانيا قبل طرد يهود إسبانيا في العصور الوسطى باسم “سيفارديم” (على الاسم العبري لـ “إسبانيا”). وأما اليهود القادمين من الدول العربية في شمال إفريقيا أو آسيا، فعرفوا باسم يهود “عِدوت هَمزراح” (الطوائف الشرقية) أو، مِزراحيم (شرقيين) لاحقا.
كانت الاختلافات داخلية أيضا بين المجموعات نفسها، نظرا لاختلاف التاريخ وتطور مناطق معينة بشكل مختلف عن الأخرى. مثلا، كان اليهود من اليمن والمغرب والعراق مختلفين تمامًا عن بعضهم البعض، على الرغم أن من وجهة نظر اليهود الأشكناز الغربيين، كانوا جميعهم متشابهون. كان العكس صحيحا أيضا، حيث أن من وجهة نظر اليهود من إفريقيا وآسيا، كان اليهود الألمان والرومان والبولنديون متشابهين إلى حد ما، مع أنهم كانوا في الحقيقة مختلفين.
فمن ناحية، كان هناك تعددية كبيرة للمجموعات الثقافية المختلفة التي أنشأت منابر ثقافية غنية والتي خلقت كيانا ثقافيا “أكبر من مجموع أجزائه”، والتي تطورت مع الوقت، ولكن اللقاء بين المجموعات المختلفة في إسرائيل عادة ما كان يسبب توترا ونقد. كانت الصهيونية بمثابة أيديولوجية أوروبية الأصل، حيث حققت القومية الحديثة والاشتراكية والعلمانية شوطًا كبيرًا لدى الجاليات اليهودية هناك. أراد اليهود الأوروبيون القادمون إلى إسرائيل إنشاء مجتمعا يعكس قيمهم التي اكتسبوها هناك، لكن اليهود القادمين من مناطق أقل تطوراً (من حيث المفاهيم الغربية للحداثة)، والذين لم يسبق أن واجهوا كثيرًا هذه الأفكار الغربية الحديثة، وجدوا أنفسهم في وضع غير مؤات في مجتمع كان يتطور وفقًا للخطوط التكنولوجية والثقافية الغربية الحديثة. غالباً ما شعر هؤلاء، خاصة المزراحيم منهم، بالاستعلاء والإهانة في مواجهاتهم لليهود الغربيين الذين عادة ما كانوا يشغلون مناصب في السلطة، والذين كانوا يملكون الروابط والمهارات اللازمة للنجاح في المجتمع الجديد والدولة التي أقاموها والتي شعروا أنهم أسيادها. كذلك، أدت المواقف تجاه العالم العربي (التي سميت منذ ذلك الحين بـ “الاستشراق”)، وحقيقة أن المجتمع اليهودي بدأ بالتعامل مع العالم العربي كـ “عدو” وليس كمجرد “آخر” إلى توتر كبير بين الجماعات العرقية المختلفة لليهود في المجتمع الجديد ودولة إسرائيل.
يتميز تاريخ دولة إسرائيل لذلك بتناقض عرقي غريب بين مجموعات اليهود المختلفة. حيث رأى الجميع بأنفسهم منتمين للشعب اليهودي من جهة، وبالمقابل عرفوا عن أنفسهم كمنتمين إلى مجموعات إثنية فرعية على المستوى الثقافي والاجتماعي، مع درجة من العداء تجاه المجموعات الأخرى. اعتادت التوترات الاقتصادية لعب دور ما في هذه العداءات لأن الخلفية العرقية غالباً ما تكون مرتبطة بالفرص التعليمية والطبقة الاجتماعية والوضع الاجتماعي والثروة.
علاوة على ذلك، سببت الاختلافات والتوترات الدينية بين المجموعات المختلفة انقسامات فرعية إضافية. كان المجتمع اليهودي في فلسطين، ما قبل إقامة دولة إسرائيل، مرتكزا على مجموعة من الأفكار العلمانية التي رأت بالدين شيئا متخلفا، آخذ بالزوال من العالم. لكن الهوية الدينية لمعظم اليهود الذين أتوا من مجتمعات أكثر تقليدية، مثل الحريديم من أوروبا أو معظم اليهود المزراحيم، كانت قوية وخلقت سببًا آخر للتوترات.
تغيرت إسرائيل كثيرا منذ أيامها الأولى، حيث أصبحت العلاقات بين المجموعات المتخلفة أكثر تركيبا وأقل مفهومة ضمنا. الحدود العرقية والدينية والاجتماعية أكثر سيولة اليوم مما كانت عليه قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، لكن التوترات لا تزال قائمة. التقاطعات بين الإثنية، الطبقة الاجتماعية والدين لا تزال قائمة في مناطق واسعة من المجتمع، خاصة عندما تتقاطع أيضًا مع الاختلافات والتوجهات السياسية.