الفترة التي تلي نهاية عيد السوكوت وهي شميني عاتسيريت في إسرائيل تسمّى بفترة “أحاري ها-حاجيم” أي ما بعد الأعياد. هذه التسمية تمثل العودة إلى الروتين العادي للحياة اليومية. فإن الشهر الثامن من التقويم العبري هو “حشوان” ولكنه يسمّى أيضًا “مار- حشوان” مع إضافة كلمة “مار” التي تعني “مُر” بالعبرية وذلك لأنه ليس فيه أي أعياد. أما في طبيعة الحال فهذه الفترة حلوة ومرة في نفس الوقت، وذلك لأننا نشتاق إلى الجو الاحتفالي الذي يميز فترة الأعياد ولكننا مع ذلك نتشوق لممارسة الأعمال المتبعة في حياتنا اليومية. ونبدأ أيضًا بالبحث عن السحاب في السماء أملين بأن الشتاء سيكون ماطرًا في بلادنا.
العيد الأول الذي يحل بعد شهر حشوان يبدأ في الخامس والعشرين من الشهر التالي – شهر كيسليو – ويستمر ثمانية أيام داخلاً إلى شهر طبيث (ما يقابل شهري كانون الأول والثاني) . مثل عيد البوريم (عيد المساخر) تعود جذور هذا العيد أيضًا إلى فتاوى الحاخامين. لذلك، رغم وجود فرائض دينية معينة يلتزم بها اليهود خلال العيد (وأبرزها، في حانوكا، إضاءة الشموع) فليست هنالك تحريمات على العمل أو السفر إلخ. تكون المدارس في إسرائيل مغلقة ولكن معظم الناس يمارسون أعمالهم خلال أيام العيد.
مثل الأعياد الأخرى يكون عيد الـ”حانوكا” أيضا متعدد المفاهيم. فمن الناحية التاريخية يحيي العيد ذكرى الثورة الناجحة لعائلة الحشمونائيم، بقيادة يهودا “الماكابي”، ضد القوات الأجنبية المحتلة – اليونانيين- السوريين – بقيادة أنتيوخوس أبيبانس. لقد دنس المحتلون الأجانب الهيكل المقدس في القدس وأصدروا أوامر كثيرة ضد ممارسة العبادات اليهودية. وهددت إطاعة هذه الأوامر بقاء الإيمان اليهودي. وتميزت هذه الثورة أيضًا بنوع من الصراع الداخلي ضمن الطائفة اليهودية ضد ميول الاندماج بالحضارة اليونانية وتبنيها. واستمر القتال ثلاثة أعوام تقريبًا حتى في الخامس والعشرين من شهر كيسلو، عام 164 ق.م أفلحت القوات المدعوة بـ”الماكابيم” يتحرير القدس وشقت طريقها إلى الهيكل المدنس. وتقول الأسطورة التقليدية إنه عندما أرادت قوات الماكابيم أن تعيد إضاءة الشمعدان التقليدي الموجود في الهيكل، وجدت إناء زيت صغيرًا من شأنه أن يكفي ليوم واحد فقط. وكان الماكابيم بحاجة للسفر مسافة ثمانية أيام كي يحصلوا على كمية إضافية من الزيت ويأتوا بها إلى القدس (ولكوننا مقيمين في المنطقة نعرف أن هذه الفترة كانت فترة قطف الزيتون لذلك كان الزيت متوفرًا). ولكن إناء الزيت الصغير قد كفّى بأعجوبة لإضاءة الشمعدان طيلة الأيام الثمانية حتى أُتي بكمية زيت إضافية من القرية.
أصبحت تلك المعجزة، معجزة إناء الزيت الصغير، رمزًا للقوة الكامنة في الأمة الصغيرة من أجل البقاء والتغلب على أعدائها. ويقصد اسم العيد الذي يعني حرفيا “تدشين” إلى إعادة تدشين الهيكل خلال هذه الفترة. ويُحتفل بالعيد باعتباره “عيد الأنوار” بالسعادة والشكر لله تعالى خلال ثمانية أيام. وهناك مجموعات كثيرة ومختلفة داخل الشعب اليهودي تضفي على عيد الـ”حانوكا” مفاهيم عصرية. فقد أكد الصهاينة العلمانيون الانتصارات العسكرية التي أحرزت في تاريخ هذا العيد وهناك بعض حركات الشبيبة وحتى الوحدات العسكرية التي تنظم حتى يومنا هذا مسيرات “في أعقاب الماكابيم”. ويرى اليهود اليبراليون في “حانوكا” تعبيرًا أوليًا للحرية الدينية والحق في الاختلاف عن الغير وحتى في الإطاحة بقوة أجنبية. ويرى بعض اليهود الأرثوذوكس في نور “حانوكا” رمزًا مستعارًا لدراسة التوراة مشيرين إلى أن جذر هذه الكلمة التي تعني “تدشين” بالعبرية يشبه جذر كلمة “حينوخ” العبرية والتي تعني “التعليم”.
وأحد الأبعاد الذي ينطوي على التناقض في عيد الحانوكا هو أن الحضارة اليهودية التقليدية قد استوعبت بالفعل كثيرًا من التأثير اليوناني. فإن المحكمة الربانية كان يطلق عليها اسم “السنهادرين”، وهي كلمة يونانية، وإن المفاهيم والطرق الفلسفية اليونانية متبعة في التلمود. ويقدر معظم اليهود العصريون مؤسستين نشأتا في اليونان وهما الديمقراطية والمسرح.
وقد يكون المثال الأكثر سخرية لهذا التأثير الحضاري هو أن إحدى العادات اليونانية القديمة الأكثر إشكالا في وجهة نظر الحاخامين كانت المباريات الرياضية التي تتمثل بالألعاب الأوليمبية. وذلك لأن الرياضيين كانوا يتبارون عادة وهم عراة، لذلك إذا أراد اليهود المشاركة في هذه المباريات، كان من المفروض أن تتم إجراءات خاصة على أعضائهم الجنسية بهدف إلغاء الختان كي لا يُعرف بأنهم يهود. ولكن في الوقت الحاضر يطلق على الأولمبياد اليهودي الدولي بـ”الماكابيا”. فهل كان يهودا الماكابي سيقبل هذه التسمية؟ أين يعبر الخط الفاصل بين الاستيعاب الحضاري وبين الاندماج الحضاري التام؟ ولأي مدى يستطيع اليهود أن يكونوا منفتحين للتأثيرات من الخارج من دون أن يفقدوا هويتهم؟ كل هذه الأسئلة تثار في عيد الحانوكا.
ولكن بالنسبة لمعظم اليهود، المتدينين والعلمانيين على حد سواء، فإنهم يعتبرون حانوكا من الأعياد المحبوبة لديهم، بغض النظر عن هذا “العبء” التربوي والإيديولوجي. وما يجذبهم إلى هذا العيد في أغلب الظن هو طقوس إضاءة الشموع مع العائلة المتجمعة حول الشمعدان المعروف بالـ”حانوكيا”. كل ليلة خلال ثماني ليال تتم إضاءة الشموع بترتيب تصاعدي: شمعة واحدة في الليلة الأولى، وشمعتين في الليلة الثانية إلخ… حتى ثماني شمعات في الليلة الثامنة. وتتخلل هذه الطقوس البركات، والأغاني، وألعاب الأطفال، والمأكولات الشهية، والعادة التقليدية لتوزيع مصاريف العيد نقداً على الأولاد. وهناك تقليد آخر بدأ يصبح شائعًا مؤخرًا، خاصة في الطوائف اليهودية الغربية، حيث يعطي الناس هدايا خاصة بعيد الحانوكا، وذلك في أغلب الظن بتأثير من تقليد إعطاء الهدايا في عيد الميلاد المسيحي. أما نوع مأكولات العيد فيختلف من طائفة لطائفة: في إسرائيل – الدوناتس (زلابية) المحشوة بالمربى والمعروفة بـ”السوفجانيوت”، وفي أوروبا – فطائر البطاطا المقلية، وفي دول المغرب العربي – السفينج المالح والمقلي. وإن القاسم المشترك بين كل هذه المأكولات هو أن يتم تحضيرها بالزيت لذكرى المعجزة.
مما يثير الاهتمام أن نعلم بأن عيد الحانوكا، على غرار الأعياد الأخرى التي ذكرناها، له أيضا علاقة بفصول السنة، إذ نحتفل بعيد الأنوار هذا في الفترة الأكثر ظلمة في السنة الشمسية (قريبًا من نقطة انقلاب الشمس الشتوي) كذلك هذه هي الفترة الأكثر ظلمة في الشهر القمري (من الخامس والعشرين في الشهر حتى الثالث من الشهر التالي – أي بكلمات أخرى عدم وجود ضوء قمر). وتوجد مجتمعات كثيرة تقوم باحتفالات النور في هذه الفترة من السنة. في الحضارات الوثنية، من مصر إلى فارس، تتعلق هذه الفترة من السنة بمولد إله أو إلهة الشمس. أما نحن فنؤمن بإله واحد، خالق الكل، لذلك نحتفل بالنظام الطبيعي الذي خلقه: في الشتاء عندنا أقصر نهار في السنة وعند انتهاء هذه المرحلة يعود النور من جديد. هكذا يصبح انتصار النور على الظلمة رمزًا للأمل والإيمان، وصلاتنا للعالم الأفضل.
مع أنك تستطيع دائما أن تستعمل تحية “حاج سامياح”، فالتحية المناسبة لعيد الحانوكا هي “حاج أوريم سامياح” أي “عيد أنوار سعيد”.
بعد حانوكا بأسبوع في العاشر من شهر طبيث هناك صوم صغير ثان. هذا الصوم يحيي ذكرى الحصار الذي فرضه على القدس نبوخذنصر ملك بابل، الملك الذي دمر هيكل سليمان في وقت لاحق. يوصف هذا الحادث في أول آيات سفر الملوك الثاني، إصحاح 25. وفي الفترة الأخيرة أصبح هذا اليوم يحمل معنى عصريًا أكثر، لأن الحاخامية الرئيسية في إسرائيل حددت هذا اليوم ذكرى لضحايا المحرقة (كارثة يهود أوروبا) الذين لم يعرف تأريخ موتهم.
مراجع لمتابعة الدراسة في التوراة: لا تعتبر أسفار الماكابيين جزءًا من لائحة الأسفار اليهودية المشمولة بالعهد القديم، ولكنها جزء من الأدب الديني اليهودي. مع ذلك فهذه الكتب تذكر في كثير من الطبعات المسيحية للأسفار المقدسة.